
إعداد: الطالبة رغد الخشاشنة والطالبة دعاء المشاعلة
المراجعة العلمية: الدكتورة دنيز طوالبة
الصحة النفسية هي حالة من الرفاهية يتمكّن فيها الفرد من إدراك قدراته وإدارة عواطفه بوعي واتزان ، وتشمل
قدرة الإنسان على التعرف على مشاعره والتعبير عنها وتنظيمها ضمن إطار صحيّ، بحيث لا تكون العاطفة قوة خارجة عن السيطرة، بل جزءًا متكاملًا من اتزانه الداخلي. وتنعكس هذه الحالة من الاتزان في سلوكيات الفرد اليومية: في طريقة تفاعله مع الآخرين، وفي اختياراته الحياتية، وفي قدرته على العمل والإنتاج والمشاركة المجتمعية بفاعلية.
فالسلوك ليس نتيجةً للعاطفة فحسب، بل هو جزء أساسي من منظومة التوازن النفسي، وتتجلّى الصحة النفسية أيضًا في القدرة على التعامل مع الضغوط اليومية، لا تلك الكبرى فحسب، بل حتى "الضغوط العادية للحياة “من خلال التكيّف الإيجابي مع المتغيّرات المستمرة، والمرونة في مواجهة التحديات، والقدرة على الاستمرار في أداء الدور الإنساني والاجتماعي بشكل منتج ومتكامل.
لماذا تتأثر الصحة النفسية في الخريف والشتاء؟
يتزامن دخول فصلي الخريف والشتاء مع انخفاض ملحوظ في شدة الإضاءة الطبيعية وعدد ساعات النهار، وهو عامل بيئي إذ أظهرت دراسة منشورة في American Journal of Psychiatry أن له تأثيرًا مباشرًا في تنظيم المزاج ووظائف الدماغ المرتبطة بالعاطفة والطاقة الذهنية.
بينت الأبحاث الحديثة أن هذه التغيّرات الموسمية تؤثر بشكل أساسي على نظام السير وتونين (Serotonin)، وهو أحد أهم النواقل العصبية المسؤولة عن الشعور بالاستقرار العاطفي.
وبحسب دراسة تصوير دماغي أُجريت في جامعة كوبنهاغن ونُشرت في مجلة Brain، وُجد أن نشاط ناقل السير وتونين(5-HTT) يزداد خلال فصل الشتاء مقارنةً بالصيف، مما يؤدي إلى انخفاض كمية السيروتونين الحرة في المشابك العصبية المسؤولة عن تحسين المزاج وتنظيمه.
كما أشارت دراسة نُشرت في The Lancet، إلى أن معدل تصنيع السيروتونين في الدماغ يرتبط طرديًا بكمية ضوء الشمس الساطع؛ فكلما ازداد التعرض للضوء الطبيعي، ارتفع معدل إنتاج السيروتونين، والعكس صحيح عند نقص الإضاءة.
في المقابل، أظهرت دراسة في Journal of Clinical Endocrinology and Metabolism أن امتداد ساعات الظلام في الشتاء يرفع إفراز هرمون الميلاتونين (Melatonin)، وهو المنظم الرئيسي لدورات النوم والاستيقاظ، مما يؤدي إلى الشعور بالخمول والنقص في النشاط الحيوي.
هذا التزامن بين انخفاض السيروتونين وارتفاع الميلاتونين يُحدث خللاً في التوازن العصبي الهرموني، وهو ما وصفته دراسة نُشرت في Archives of General Psychiatry بأنه الآلية الجوهرية لما يُعرف بـ الاضطراب العاطفي الموسمي (Seasonal Affective Disorder – SAD).
سريريًا، تشير تقارير المعهد الوطني للصحة النفسية (NIMH, 2024) إلى أن أبرز مظاهر هذا الاضطراب تتمثل في انخفاض المزاج، ضعف التركيز، اضطرابات النوم والشهية، وفقدان الطاقة.
وعليه، توضّح هذه الدراسات أن الانخفاض الموسمي في ضوء الشمس يطلق سلسلة من الاستجابات العصبية والهرمونية يمكن تلخيصها في المعادلة التالية:
قلة الضوء ← اضطراب في توازن السيروتونين والميلاتونين ← خلل في الساعة البيولوجية ← تغيّر في المزاج والسلوك.
كيف نحافظ على صحتنا النفسية في مواسم البرد؟
1. الحرص على التعرض للضوء الطبيعي أو العلاج الضوئي: قضاء وقت في ضوء النهار، خاصة في الصباح الباكر، يساعد في إعادة ضبط الساعة البيولوجية «circadian rhythm» وتحسين المزاج.
2. المحافظة على نشاط بدني منتظم: التمارين الرياضية ترفع مستويات الإندورفين وتحسّن المزاج، حتى لو كان الجو بارداً. ينصح بالخروج ولو لفترات قصيرة للمشي أو النشاط في الهواء الطلق للاستفادة من الضوء والحركة معاً.
3. تنظيم النوم والعادات اليومية: من المهم الالتزام بروتين نوم واستيقاظ ثابت، وتجنّب التغيّرات الكبيرة في ساعات النوم، لأن انخفاض ضوء النهار قد يشوّش الساعة البيولوجية.
4. التغذية الجيدة والعناية بالصحة الجسدية: تناول غذاء غني بالخضروات والفواكه والبروتين الصحي، والحدّ من الأطعمة المعالجة والسكر الزائد له تأثير إيجابي على المزاج. كما أن مراقبة مستويات فيتامين D تعتبر ذات أهمية عالية لأن نقصه في الأشهر الباردة قد يرتبط بتغيّرات في المزاج.
5. الاحتفاظ بالتواصل الاجتماعي ودعم العلاقات: العزلة تزيد من مخاطر الشعور بالاكتئاب أو التدهور النفسي في الشتاء. لذا، الحفاظ على التواصل مع الأصدقاء والعائلة أو مجموعات الدعم مهم. حتى لو كان الخروج أقل أو النشاط في الخارج أقل، يمكن عمل لقاءات داخلية، مكالمات فيديو، أو أنشطة جماعية بسيطة.
6. ممارسة اليقظة الذهنية، وتقنيات الاسترخاء والتأقلم مع الحالة: التأمل، التنفّس العميق، أو ممارسة نشاط هادئ يمكن أن يقلّل التوتر ويحسّن المزاج. أيضًا، الاعتراف بأن فصل الشتاء قد يكون تحديًا— وضبط التوقعات وتقنيات التأقلم تساعد على تجاوز هذه الفترة بشكل اسهل وهذا ما ورد في دراسة أجريت بعام 2024 Suburban Research Institute (2024) – “Managing Mental Health in the Winter Months.”
كيف يمكن للأعشاب أن تدعم الصحة النفسية؟
إلى جانب التدخّلات السلوكية والبيئية، هناك اهتمام متزايد بدور الأعشاب والمكوّنات النباتية في دعم الصحة النفسية، لا كبديل للعلاج ولكن كمكمّل. في مراجعة منهجية بعنوان Herbal Medicine for Depression and Anxiety: A Systematic Review وُجد أن أعشاباً مثل الخزامى (lavender)، البابونج (chamomile)، المِلِيّسا (lemon balm)، والزعفران (saffron) أظهرت احتمالاً في تخفيف أعراض الاكتئاب والقلق، مع ملف آثار جانبية أقل مقارنة ببعض الأدوية النفسية.
توضيحٌ مبسّط للمكيّفات:
هذه الأعشاب تحتوي على مركّبات فعّالة مثل موسّعات تأثير GABA، أو تعديل السيروتونين/الدوبامين، أو مضادات الأكسدة – بمعنى أنها تتفاعل مع الجهاز العصبي المركزي بطرق قد تساهم في تنظيم المزاج أو القلق. لكنها ليست علاجاً دوائياً رئيسياً للاكتئاب الموسمي أو الاضطرابات النفسية الخطيرة، بل يمكن اعتبارها جزءاً من استراتيجية شاملة للدعم النفسي.
على سبيل المثال، في مراجعة أخرى بعنوان Medicinal Plants and Herbal Medicines for Managing Anxiety, Depression and Insomnia تم بحث فعالية البابونج والمِلِيّسا في تجارب سريرية، ووجدت أدلة واعدة لكن النتائج متباينة وتتطلب تجارب أكبر وأطول مدّة.
هل تُعتبر الأعشاب بديلاً عن الطب النفسي
من المهم التأكيد في هذا الجزء أن الأعشاب لا تُعد بديلاً للعلاج النفسي أو الادوية الموصى بها في حالات الاكتئاب الموسمي أو الاضطرابات النفسية المركّبة.
الأدب العلمي يشير بوضوح إلى أن مثل حالات Seasonal Affective Disorder تُعالج بوسائل متعددة تشمل العلاج الضوئي (light therapy)، والعلاج السلوكي-المعرفي (CBT)، وربّما مضادات الاكتئاب في الحالات الشديدة.
في المقابل يمكن للأعشاب أن تكون “مساندة” — أي عنصر إضافي ضمن نمط حياة متوازن: ضوء كافٍ، نشاط بدني، نمط نوم مناسب، دعم نفسي واجتماعي — لكنها لا تحل محل التقييم الطبي أو النفسي في حال وجود أعراض شديدة أو خطر.
يجب أيضاً مراعاة التفاعلات الممكنة للأعشاب مع الأدوية، وضبط الجرعات ومراعاة السلامة (مثال: بعض الأعشاب قد تؤثّر على أيض الأدوية أو تزيد النعاس). بالتالي، يمكن القول: الأعشاب داعم وليس بديل.
الخاتمة
في ختام هذا المقال، يجدر التأكيد بأن العناية النفسية أمر لا غنى عنه، وليس رفاهية يمكن تأجيلها. فقد أكّدت دراسات علمية أنّ الصحة النفسية تشكّل جزءًا أساسياً من الصحة العامة، حيث يُشار إلى أن الصحة النفسية تؤثر على كيفية تفكيرنا، شعورنا، وتصرفنا، وتلعب دوراً حيوياً في قدرتنا على التكيّف مع الضغوطات وبناء علاقات صحية.
علاوة على ذلك، تُظهر مراجعات بحثية أنه من الضروري الاستثمار في أنظمة دعم الصحة النفسية لضمان وصول الخدمات المناسبة، والتعامل مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية لإهمال هذا الجانب.
ومن هذا المنطلق، يصبح لزاماً علينا أن ننظر إلى الصحة النفسية باعتبارها استثماراً في قدرة الفرد على العيش بشكل متوازن ومُنتج. ليس فقط لأننا نستحق ذلك، بل لأن صحة النفس تبني أساساً متيناً لصحة الجسد، والعلاقات، والمجتمع.

